ترامب- حرب اقتصادية، ثورة سياسية، وفوضى عالمية متصاعدة.

المؤلف: سعدي سامي ياسين09.07.2025
ترامب- حرب اقتصادية، ثورة سياسية، وفوضى عالمية متصاعدة.

في تحرك مدوّ يعكس رسائل قوية اللهجة، شنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حربًا اقتصادية شاملة الأبعاد، مستخدمًا التعريفات الجمركية الثقيلة كسلاح استراتيجي حاسم. هذه الحرب التجارية استهدفت بوضوح التنين الصيني الصاعد، ولم تنجُ منها حتى التهديدات الموجهة للحليف الأوروبي التقليدي.

لكن الأمور لم تقتصر على النطاق الاقتصادي وحده؛ بل أطلق ترامب ثورة سياسية معاكسة، زلزلت أركان الثقافة الليبرالية الغربية، وعبثت بقواعد سياسة الهجرة التي كانت تشكل على مدى عقود طويلة إحدى الركائز الأساسية للقيم الأمريكية العريقة.

هي إذًا مواجهة مفتوحة على مصراعيها، عنوانها الأبرز التمرد الصارخ على التقاليد الموروثة، وإعادة صياغة معالم أمريكا وفقًا لرؤية ترامب الخاصة وطموحاته الفريدة. إنها محاولة لإعادة تشكيل النظام العالمي.

لطالما اتسمت السياسات الأمريكية تجاه الصين بالاعتدال والتريث، بدءًا من سياسة الاحتواء الدقيق خلال حقبة الحرب الباردة، ووصولًا إلى الانفتاح الاقتصادي التدريجي في عهد نيكسون، ثم الشراكة المشروطة التي طبعت العقود الأخيرة من الزمن.

في هذا السياق التاريخي، كانت الولايات المتحدة تحرص على نسج علاقاتها المعقدة مع الصين ضمن شبكة محكمة من الضوابط التي تحكمها المصالح الإستراتيجية المتبادلة والتوازنات العالمية الدقيقة، مع إيلاء اهتمام دائم بالتنسيق الوثيق مع الحلفاء الأوروبيين الذين شكلوا حلقة وصل أساسية في رسم واستقرار هذه السياسة المحكمة.

ولكن مع وصول دونالد ترامب المفاجئ إلى سدة الحكم في البيت الأبيض، شهد هذا المسار الحذر تحولًا جذريًا غير مسبوق. فقد أطلق العنان لسياسة خارجية متحررة من القيود، تجاوزت النص التقليدي الذي حكم السلوك الأمريكي لعقود طويلة، وتخطت الأعراف الراسخة التي كانت تضبط حركة "السيارات الأمريكية" في حلبة السياسة الدولية الشائكة.

فبدلًا من اللجوء إلى الحوار البناء والدبلوماسية الاقتصادية الهادئة، تبنى ترامب نهج المجابهة والمواجهة المباشرة، مفجرًا حربًا تجارية ضروسًا في وجه الصين، وموجهًا رسائل صادمة وقاسية حتى إلى أقرب الحلفاء الأوروبيين التاريخيين.

يشهد العالم تغيرات متسارعة بوتيرة غير مسبوقة تكاد تكون غير طبيعية، وكأن النقاط المرجعية الثابتة التي كانت تنظم التوازنات الدولية الدقيقة تتهاوى وتتلاشى دون أن تترك أي فسحة لمرحلة انتقالية هادئة ومنظمة.

إننا نشهد تحولًا مفاجئًا وجذريًا بعيدًا عن النظام ثنائي القطبية الذي ساد طويلًا، ثم أحادي القطب الذي تلاه، نحو نظام عالمي بلا قطبية واضحة المعالم، حيث تتحول كل منطقة نفوذ إلى بؤرة توتر محتملة الاشتعال في أي لحظة.

هذا الاضطراب العميق هو، في جزء كبير منه، نتيجة لقرارات إستراتيجية مصيرية اتخذتها القوى الكبرى نفسها. كما شهد عهد ترامب قطيعة واضحة في الدور التقليدي للولايات المتحدة كحارس للنظام العالمي القائم. كما أنه ساعد، من خلال رفضه الصريح للمؤسسات متعددة الأطراف، وازدرائه للتحالفات التاريخية الراسخة وانسحابه السيادي المتزايد، في نزع الشرعية عن البنية التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية. وقد أتاح هذا الفراغ النسبي المجال سانحًا لقوى أخرى صاعدة – مثل الصين وروسيا وتركيا وإيران – لتأكيد طموحاتها الخاصة ورغباتها الجامحة.

في هذا المناخ المليء بالشكوك وعدم اليقين، انتهزت روسيا "فلاديمير بوتين" هذه الفرصة الذهبية لإعادة تعريف قواعد اللعبة الدولية وفقًا لمصالحها. ويشكل غزو أوكرانيا سابقة خطيرة ذات عواقب بعيدة المدى: محاولة واضحة وصريحة لتغيير النظام الدولي القائم بالقوة الغاشمة. وإذا مرّ هذا العمل الشائن دون عقاب رادع أو تم احتواؤه بشكل سيئ، فقد يصبح نموذجًا يحتذى به للقوى التحريفية الأخرى في العالم. فهو يبرهن على أنه في عالم خالٍ من النقاط المرجعية الصلبة، فإن استخدام القوة العسكرية يمكن أن يصبح مرة أخرى أداة مشروعة للسياسة الخارجية.

ولا تقتصر هذه الإعادة للتشكيل على منطقة أوروبا الشرقية وحدها، بل إنها تتجلى أيضًا في الجرائم البشعة التي لم يكن من الممكن تصور أن ترتكب في غزة المحاصرة. إن صمت المجتمع الدولي المخزي في مواجهة المذبحة المروعة التي يتعرض لها المدنيون الفلسطينيون العزل -نساء وأطفالًا وعائلات بأكملها- لا يشكك فحسب في الاتساق الأخلاقي للغرب وقيمه المعلنة، بل يشكك أيضًا في شرعيته في الدفاع عن حقوق الإنسان في أماكن أخرى من العالم.

إن الدعم الأعمى، بل وغير المشروط، لآلة الحرب الإسرائيلية المدمرة، باسم "الحق في الدفاع عن النفس"، يكشف عن انحياز انتقائي صارخ وتلاعب مشين بالمبادئ الإنسانية الكونية التي يفترض أنها تشكل أساس المنظومة الغربية بأكملها.

هذه الازدواجية الفاضحة في المعايير تغذي الاستياء العميق والغضب المتزايد في أجزاء واسعة من العالم، لا سيما في جنوب الكرة الأرضية.

كما أنها تغذي التصور السائد بأن حقوق الإنسان ليست قيمًا كونية عالمية، بل هي مجرد أدوات جيوسياسية تُستخدم في هندسة متغيرة وفقًا لمصالح اللحظة الآنية. وتساهم هذه السخرية المريرة في فقدان مصداقية المؤسسات الدولية، وصعود الحركات الراديكالية وتزايد حدة الانقسام والتشظي في الخطاب العالمي.

ونتيجة لذلك، فإننا لسنا ببساطة في مرحلة انتقالية جيوسياسية عابرة، بل نحن في حالة اضطراب أخلاقي عميق الجذور. إن غياب القطبية الواضحة لا يؤدي إلى عالم سلمي متعدد الأقطاب، بل إلى فضاء مجزأ ومتوحش، حيث تحل القوة الغاشمة محل القانون العادل في كثير من الأحيان، والانتهازية البغيضة محل الأخلاق الرفيعة.

في هذا العصر غير المستقر والمليء بالتحديات، لم يعد الصراع هو الاستثناء النادر، بل القاعدة السائدة، وأصبحت التحالفات متقلبة وغير موثوقة، وتذوب الحقائق الموضوعية في ضجيج الروايات المتنافسة والمتضاربة.

مازال هذا العالم المضطرب لم يجد شكله النهائي بعد، وإلى أن يعيد ابتكار شكل من أشكال التوازن العادل والقائم على التضامن الحقيقي والعالمي، سيظل ميدانًا مفتوحًا للمواجهات والصراعات، المرئية والخفية، حيث يدفع الناس الأبرياء ثمنًا باهظًا لطموحات الأقوياء وجشعهم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة